لعل التأمل الرصين في أوصال العدل مع الكلمة والكلام، أن الأشياءَ العظيمة تقتضي منا الصمت حيالها، أو الحديث عنها بتعظيم أو ببراءة، لم يعُدِ الإشكال العقيم كيف نحافظ على الهوية، فلا أحَدَ يستطيع سلخَنا عن خصوصيتنا، وإنما الإشكال الرئيس كيف نتعاطى مع هويتنا، بلُغة الخَلق والصُّنع والبِناء التي هي لغة العصر والمستقبل، أي: ما السبيل إلى خَرْق الحواجز النفسية والفكرية العادية؟ في زمن تسُوده فلسفة المِطرقة النيتشية، وعلم النفس الكبتي الفرويدي القائل: عندما يبدأُ المرء في طرح السؤال عن معنى الحياة والموت، فذلك دليلٌ على أنه مريض.
من مداخل هذه الحواجز والمطرقات التي تخرم هويتنا، يقعُ الأدب بإعتبارِه حلقة أيضًا من كينونتنا في زمن إفلاس الهويات، من يحرِّر الأدبَ من التبعية المحتشمة؟ إنحرفت قليلاً أو كثيرًا أو خطوة في أودية، هوَتْ بالآداب الأوربية والإنسانية، في أنهارِ الصَّنَمية، والسريالية، والرمزية، والوجودية، والعبَثية، والعبثية السردية، والعبثية الحشوية، والعبثية العابثة.
كنا وما زِلْنا نؤمن برسالية الأدب وبنبوءته، فالأدبُ يجب أن يكون مؤسَّسًا على فكرة معينة، ومنطلقًا برؤيا واضحة غير مشتّتة، وموصلاً رسالته إلى المتلقّي الموجود على الأرض، الأدبُ يجب أن يكونَ مستشعرًا البعد، مستشرفًا الآتي، متنبئًا به، بحسِّه الرُّؤيوي، ونظرته التأسيسية المتجاوزة، والتجاوز لا يتحقَّقُ إلا بشرطية التأسيس، وخَلْخلة وتفكيك القائم الراهن، والكل لا يتحقق إلا بشرطيةِ التأصيل، بمعنى خلخلة المؤسس والمؤصل، ثم إعادة بنائه وترتيبه، ضمن الخصوصية الثقافية لمجتمع ما، من أجل بناءِ مفهوم إنسانية الإنسان، يقول وليم هدسن: "إن عنايتَنا بالأدبِ تنبُع بسبب أهميته الإنسانية العميقة الخالدة، إنه يستمدُّ موضوعَه مباشرة من الحياةِ وصميمها، وهنا نجد أنفسنا، ونجدُ الحياة نابضةً، فتؤلِّف فينا ومعنا علاقاتٍ كثيرة وجديدة.
ينبغي ألا نتورَّطَ في محظور مفهوم الأدب كما صاغته الذِّهنيةُ الغربية، الأدب يستطيع الكثير، يستطيع أن يمدَّ لنا اليدَ حين نكون في أعماق الإكتئاب، ويقودنا نحو الكائنات البشرية الأخرى من حولنا، ويجعلنا أفضل فَهمًا للعالم، ويعيننا على أن نحيا، فشِئْنا أم أبَيْنا وأمام هذه الفوضى العارمة في مجال الدراسات الأدبية.
سيظل الأدبُ إبداعًا إنسانيًّا، فالأدب يجعَلُنا نحيا تجارِبَ فريدة، إنه ديوان الحياة كما يقول عز الدين إسماعيل، فالأدب الذي يخاطب الإنسان الشقي في فَقْره المادي، المشغول بهمِّ المعاش، ويخاطب الإنسان المُتْخَم الشقي بتُخمته في مجتمع الإستهلاك، الذي يلهب جوعة الحيوان الإنساني، والدعوة إلى المزيد من وسائل الترف، ويعطش غرائزه بالإعلام الفاضح، والإشهار الرازح، وإلى المزيد من المُتعة والتهتُّك والدعارة، ليس بأدبٍ في شيء.
فالأدب إن ادَّعى المذهبية، وإكتفى بالحَوْم المحتشم حول حقائقها، مخافة أن يقعَ فيها، فيفقد أهليتَه لصفةِ الأدبِ، فإنما هو مِكَرٌّ مِفَرٌّ في اعوجاج، ينبغي أن يكون الأدبُ وسيلة من وسائل التربية، لا أداةَ تسلية وبضاعة واستهلاك، نريد أدبًا مُعافًى من لوثات التعايش مع عصر الاستهلاك والتجارة الحرَّة والاقتصاد المُعَولم.
عُقدة الولاء للإستبداد، هي الجمركة والمطبُّ، بإعتبارهما جرعة مأساوية تُثقِل كاهل الأديب، فلا طاقة له على منازلة الفلسفة الدوابِّية، بعد أن أصبح دمية مبرمجة بسلوك معين، ومدجنة ومعلفة، يموت شاعرٌ فيرثيه شعراءُ يُسلِّي أحدُهم زملاءه بأنها دورة الحياة والموت، وأننا جميعًا أوراقٌ في شجرة الحياة، تخضَرُّ، ثم تصفرُّ، ثم تذبُل، ثم تسقُط مائتة، إننا نريد الأديب الشاعر الناي، يموت الناي ويخلد لحنه، وتغني نغمته جمال الحياة.
إن صدق المضمون وبيان الحقيقة، هما الكيفُ الذي به يكسبُ الأدب قوتَه، ونفوذه، وفضيلته، ليغزو ضمير الإنسان في عالَم التجارة العملاقة، وتخوم الهندسة الوراثية، في دين الاقتصاد المعولم وقانونه.
قد فقَد الإنسان في نظر نفسه قدرًا كبيرًا من كرامته، لطالما كان هو مركزَ الوجود وبطَلَه التِّراجيدي
إذًا لا خير في نعت الأدب أدبًا، إن جرى في مضمار السباق مع الآداب الإنسانية، يلهب الأحاسيسَ بالتشبيهات البارعة، والمبالغات الفنية، والزخارف اللفظية، والنصاعات البيانية، ثم لا تجدُ له مضمونًا إلا خيالاً مدغدغًا، وصورًا حوَّمت لحظة مخيلة، ثم احترقت كما يحترق الفراشُ الهائم.
المصدر: موقع الآلوكة.